المنطق العلوي

منطق نسخ الطرائق

منطق نسخ الطرائق

بقلم الأستاذ المهندس: أسامة حافظ عبدو

 

إن الدين هو الأصل لسائر الشرائع، أما الشرائع فهي فروع. وقد بعث الرب الأنبياء بالشرائع السماوية لتنظيم حياة السالكين، وكانت شريعة النبي الأعظم نوح (ع)، المشتملة على المواعظ والحكم التي تتناسب مع عصره، أول شريعة تنزل من السماء إلى أهل الأرض، حيث ورد في سفر التكوين: (وكلم الله نوحًا وبنيه معه قائلاً: وها أنا مقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم)، وبقي الأنبياء بعد سيدنا نوح (ع) يعملون بها إلى زمن نبي الله الأعظم إبراهيم الخليل (ع) الذي أنزل الرب عليه شريعةً ثانيةً، بدليل ما ورد في سفر التكوين: (ولما كان أبرام ابن تسع وتسعين سنةً ظهر الرب لأبرام وقال له: أنا الله القدير. سر أمامي وكن كاملاً، فأجعل عهدي بيني وبينك، وأكثرك كثيرًا جدا)، وهذا ما يسمى (منطق نسخ الطرائق)؛ أي: تأتي شريعة جديدة تنسخ ما قبلها، وهذه الشرائع وإن كان يختلف بعضها عن البعض الآخر شكلاً إلا أن جوهرها واحد لأنها تدعو إلى دين واحد من عند الرب لقوله في سفر التكوين: (أن يحفظوا طريق الرب، ليعملوا برا وعدلاً).

فالدين هو جوهر سائر الشرائع، ولولا ذلك لما دعا إليه جميع الأنبياء والرسل، فالذي يعتقد بأنه أصاب المعتقد الديني بإقامة الطرائق الشرعية متدينًا بها، وبدون أن يكون له مستند حقيقي عن الحقائق، فإنه يكون محشوا بعلوم أصحاب المذاهب الظالمة وعقائدهم الفاسدة ومختنقًا بأقوالهم الحائدة التي حذر منطقنا العلوي منها، فالذي يفتتن عما جاءه من الدين الحق الذي هو عمق الوحي، ويتمسك بشكله فقط دون جوهره الحقيقي، يكون قد أصبح خليلاً لأهل الكفر والضلال، ولولا أن يثبت الرب عبده السالك بألطافه الخفية وبالقول المحكم الثابت لأمكن أن يركن إليهم.

فالمنطق العلوي الذي أمر به الرب والأنبياء والرسل هو منطق الدين الحق الذي لا نجد له تحويلاً، وهذا يدل على أن هذه الشرائع المتحولة ليست جوهريةً، وأن المنطق العلوي هو الحقائق الثابتة التي لا تتحول أبدًا، والتي أشار إليها الإمام علي (م) بقوله: (التصديق بملكوت السماوات والأرض عبادة الصادقين)، وذلك للدلالة على أنه لا يجوز للسالك أن يعتقد بشيء من شرك الخداع لأنه بذلك يقع بالشك فيؤدي ذلك للميل إلى المنافقين.

وإذا علمنا أن الرب لا يدخل عليه التغيير من حال إلى حال، فأية حكمة في أن يكلف السالكين تكليفًا لا ينتفعون به ليجعل لهم عليه ثوابًا، ثم إذا قصروا عن ذلك التكليف عاقبهم؟ وإنما المنطق أن يفترض عليهم العرفان ويجعل عليه الثواب، وينهى عن الجحود ويجعل عليه العقاب، فكل ما أتت به الشرائع من تحليل وتحريم وأوامر ونواه لها عمق بالمنطق العلوي الذي أمر الرب بعرفانه.

ولو جاز لنا الاعتقاد بكل ما يقع عليه اسم (الطرائق الشرعية)، لوجب الاعتقاد بطرائق الآخرين وصلواتهم وصيامهم، وذلك لأن الأنبياء لم يقم أحد منهم بشريعة أحد، فهل يدل هذا على مخالفتهم لأمر الرب؟

إن اعتقاد الآخرين بالطرائق الشرعية فقط يدل على أنه لابد لهم من إقامة شرائع الأنبياء كافةً، وهذا لا يمكن كونها متعاكسة فيما بينها.

وهذا يبين فساد الآخرين حين يزعمون أنه لما بعث الرب لنا نبيا بهذه الطرائق الشرعية، كان يجب من طريق العدل أن يبعث في أقصى الأرض نبيا يأمرهم بنفس الطرائق الشرعية سواءً بسواء، ولا يغير عليهم ذلك لأنهم مثلنا!! فلم خصنا نحن بالأنبياء وأهمل أولئك؟

لو كان المراد بالدين شكل الطرائق الشرعية لما اختلفت أوامرها ونواهيها وتحليلها وتحريمها لأنه لا يجوز على الدين الثابت التغير من حال إلى حال، أليست الطرائق الشرعية التي أتى بها سيدنا النبي موسى الكليم (ع) قد نسخت ما كان قبلها حين أمر بتغيير الطرائق الشرعية السائدة؟

ثم جاء سيدنا النبي عيسى المسيح (ع) بشريعة أخرى، وكان سيدنا النبي موسى الكليم (ع) قد قال لهم: (من حلل عليكم السبت فاقتلوه)، فقال اليهود له: (حللت السبت)، وورد أن الفريسيين قالوا له: هوذا تلاميذك يفعلون ما لا يحل فعله في السبت! فقال لهم: (أما قرأتم ما فعله داود حين جاع الذين معه كيف دخل بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لم يحل أكله له ولا للذين معه بل للكهنة فقط؟ أو ما قرأتم في التوراة أن الكهنة في السبت في الهيكل يدنسون السبت وهم أبرياء؟ ولكن أقول لكم: إن ههنا أعظم من الهيكل! فلو علمتم ما هو: “إني أريد رحمةً لا ذبيحةً” لما حكمتم على الأبرياء! فإن ابن الإنسان هو رب السبت أيضًا).

ثم إن النصارى عظموا يوم الأحد لأنهم يعتقدون أنه في يوم الأحد قام من القبر وصعد إلى السماء، وصلوا إلى الشرق معتقدين التوجه إليه لأن اليهود جعلوا وجهه إلى الغرب لما ظنوا أنهم صلبوه فتوجه النصارى إلى الشرق. ولم يكلفهم سيدنا النبي المسيح (ع) تكليفًا بل قال: (ما حللتموه فهو محلل وما حرمتموه فهو محرم)، غير أن الحواريين أمروا بالتكليف الشرعي حين أمروا بالقربان والخبز امتثالاً لقول سيدنا المسيح (ع): (إن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك، فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك وحينئذ تعال وقدم قربانك). وزعم اليهود أنهم قتلوه وصلبوه لنقضه الشريعة الموسوية، فكذبهم الإنجيل المقدس بقوله: (ملعون كل من مات معلقًا على خشبة).

 

والسؤال: لم صارت الشريعة المسيحية أكثر روحانية من سائر الشرائع السابقة؟

الجواب: لأن سيدنا النبي موسى الكليم (ع) دعا السالكين إلى ظاهر وجوده، ولوح فيهم بحدود هيئته، وقال لهم: (لا تصنعوا لكم أوثانا، ولا تقيموا لكم تمثالاً منحوتًا أو نصبًا)، فأنكره اليهود وتمردوا عليه، فضربت عليهم الذلة والمسكنة وضيقت عليهم المطالبة وكثرت وحشة النفوس منهم ونفرت القلوب عنهم. ثم أرسل الرب بعد ذلك نبيا بالصفة المسيحية دعا السالكين فأجابوا، ولوح لهم فأطاعوا، إذ قال سيدنا المسيح (ع): (تبارك اسم الله القدوس الذي برحمته أشفق على خلائقه فأرسل إليهم أنبياءه ليسيروا في البر أمامه، الذي أنقذ عبيده من كل شر وأعطاهم هذه الأرض كما وعد إبراهيم وإسماعيل إلى الأبد، ثم أعطانا ناموسه الطاهر على يد موسى لكي لا يغشنا الشيطان، ورفعنا فوق جميع الشعوب)، فكانوا أقرب الأمم إلى الإقرار وأبعدهم عن الإنكار، ولأنهم لم ينفصلوا عن العارفين خفف عنهم إصرهم ولم يحمل عليهم من الثقل إلا أيسره بمقدار ما تجاهلوا، فأنست النفوس بهم ووهب لهم أخف الشروط وجعل لهم نصيبًا من الأمانة وقسمًا من المودة، وأحل لهم أكل ما طاب لهم وشرب ما قبلته نفوسهم، على عكس اليهود الذين حرم عليهم الطيبات لظلمهم بجحودها، وأجبرهم بإقامة الشريعة ليهذبهم بها، بدليل قول سيدنا المسيح (ع): (إن كثيرين يغتسلون ويذهبون للصلاة، وكثيرين يصومون ويتصدقون، وكثيرين يطالعون ويبشرون الآخرين، وعاقبتهم ممقوتة عند الله، لأنهم يطهرون الجسد لا القلب)، وهذا يتطابق تمامًا مع ما أشار إليه الإمام علي (م) بقوله: (ليست الصلاة قيامك وقعودك، إنما الصلاة إخلاصك، وأن تريد بها وجه الله وحده).

فالاختلاف إذن بدأ من الناس وإليهم يعود، والرب أعظم وأجل من أن يبعث نبيا يأمر بشيء يجعل فيه طاعته، ثم يبعث نبيا بعده يأتي بضد جوهر ما أتى به من قبله، وهذا معنى قول سيدنا المسيح (ع): (لا تظنوا أني جئت لأنقض الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل، فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات، وأما من عمل وعلم فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات).

 

الأستاذ المهندس: أسامة حافظ عبدو

لتحميل نسخة بتنسيق PDF انقر هنا

منطق نسخ الطـرائق

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى