الانتماء للوطن والإخلاص للطائفة
الانتماء للوطن والإخلاص للطائفة
بقلم: الدكتور أحمد أديب أحمد
لا يوجد أي تعارض بين المواطنة والطائفة في الحقيقة، إلا أن اللاوعي عند كثير من أبناء المجتمع بسبب الجهل الديني هو المشكلة التي تؤزم الحالة الطائفية وتحولها إلى عصبية عمياء، خاصةً في ظل تغييب الوعي والتوعية بمفهوم المواطنة والطائفة.
نحن نجد أن المواطن لا يعرف حقوقه ولا واجباته في بلادنا العربية عمومًا، ونرى أن عدم توعيته بقبول الآخر كما هو، سوف يؤدي به إلى التعصب لطائفته باطنًا ونكران انتسابه لها ظاهرًا، فيقع في ازدواجية الرياء والنفاق، وينتج لدينا مجتمع يكذب على نفسه ويتقوقع على ذاته مناديًا في العلن باللاطائفية دون قناعة، فإن مورس عليه ضغط المواطنة امتلأ بالحقد والضغينة، وإن انفلت من قيد المواطنة انفجرت أحقاده الدفينة وعبر عن طائفيته اللاواعية بالأعمال الإرهابية الإجرامية كما نشهد حاليًا في معظم المجتمعات.
لذلك كنت أنتقد دومًا أن ينكر الشخص إخلاصه أو انتسابه لطائفته أمام الناس رياءً بحجة أنه مواطن وإنسان و….، لأن ذلك يكرس الطائفية وينشر ثقافة الكذب على الذات. وكان الأجدر به أن يقول: “طائفتي كذا وانتمائي الوطني كذا”، فكل مواطن أخي في وطني حتى لو اختلفت طوائفنا، وله علي حق احترامه وتقديره طالما بادلني الاحترام والتقدير ذاته.
أخي القارئ:
إن مفهوم الطائفة موجود أصلاً، لم نوجده حديثـًًا، وهو يشير إلى مجموعة من الأشخاص الذين اجتمعوا على نهج ديني معين كما أقر ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك)، وبما أن هناك تعددًا للمناهج فهذا يعني أن هناك تعددًا للطوائف، فمنها المؤمنة ومنها الكافرة كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين)، والله بناءً على هذه الآية ينصر الطائفة المؤمنة التي آمنت به وبرسوله المرسل ودعاته الناطقين وأيدت نهج الحق، وهذا صراع قائم دائم لا يتوقف عبر مرور الزمن.
ولربما تختلف الطوائف المنتمية إلى شريعة واحدة لأسباب متعددة كما أخبر القرآن الكريم في قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)، وهذا الأمر الإلهي يقر إصلاح ذات البين بين المختلفين بشرط عدم مسايرة الظالم والإجحاف بحق المظلوم، بل وجبت مواجهة الظالم والباغي ليعود لنهج الحق، وعندها يتم الصلح فيما بينهما ليتحقق القسط الإلهي، إذ لا يجوز أن يشمل الرضى الإلهي كلا الطرفين. ولو كان الإصلاح وفق المبدأ الشعبي: “كل مين على دينو الله يعينو” لانتفى العدل الإلهي بسبب تحقق المساواة بين المظلوم والظالم، والمؤمن والكافر، وهذا لا يجوز بحكم المنطق والعقل.
أما المواطنة فهي المساواة الحقوقية بين جميع أفراد الوطن الواحد بغض النظر عن انتماءاتهم واعتقاداتهم وعقائدهم وطوائفهم وأحزابهم وقومياتهم وأماكن إقامتهم، وهي مفهوم لا علاقة له بالدين ولا بالشرائع، يطبق في الدولة العلمانية التي لا تعتبر الدين والطائفة أساسًا في توزيع المناصب والمسؤوليات.
لذلك لا أرى أن هناك مشكلةً بالجمع بين الانتماء للوطن والإخلاص للطائفة، فمن حق المواطن أن يكون مواطنًا محترمًا حاصلاً على حقوقه المعنوية والمادية والمعيشية ومعتزا بكرامته، وعندما يكون متساويًا مع أبناء وطنه في نيل حقوقه فلا مشكلة لديه كمواطن في أن ينظر إلى كل المواطنين على أنهم إخوته في الوطن، وهذا لا يلغي اعتزازه بإخلاصه الديني والتزامه بعبادته وإقامة طقوسه وعاداته وفقًا لتربيته وقناعاته مع وجوب احترام هذه العبادات والطقوس والعادات من قبل الآخرين حتى يبادلهم الاحترام نفسه، فلا ينتظرن من يحترمه إلا الاحترام من قبله، ولا ينتظرن من ينتقص منه إلا الانتقاص له، كما يقول سيدنا المسيح (ع): (لا تدينوا لكي لا تدانوا، لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم).
أما أن يسيء أبناء طائفة معينة كبيرة لطائفة أخرى صغيرة، ثم يعيرون الطائفة الصغيرة ويلومونها إذا بدر منها رد فعل معين، فهذه الوقاحة بعينها، كما عرفها الكاتب جبران خليل جبران قائلاً: (الوقاحة هي أن تنسى فعلك، وتحاسبني على ردة فعلي).
لذلك فإنني أجد أن المعيار لا يكون في أن ننفي الانتساب للطائفة والإخلاص لها، ونكذب على أنفسنا وعلى الآخرين، ولا يكون في أن نتنكر لطائفتنا ونستحي منها، بل أن نستحي من الظلم والنفاق والرياء لقول الإمام علي زين العابدين علينا سلامه: (ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، لكن العصبية أن يرى شرار قومه خيرًا من خيار قوم آخرين)، فمحبة القوم جائزة وواجبة، لكن التعصب للأشرار هو المرفوض لأنه التعصب الأعمى الذي يتمثل بتكفير الآخرين والدعوة لقتلهم.
وخلاصة القول:
من حق كل شخص أن يعبد الله كما يشاء وبالطريقة التي يراها مناسبةً لقوله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات)؛ أي سارعوا إلى العمل الصالح وتسابقوا إلى نشر الخيرات، فمن آمن فليؤمن ومن كفر فليكفر فهذا شأنه، ولكن من يبغي على الآخر ويظلمه ويتجنى عليه ويشهر به فلينتظر رد الفعل المناسب لفعله، لأن من حق المظلوم أن يسترد حقه ولو بالقوة. أما إذا أراد أحد أن يصون نفسه من الآخرين فليصن أولاً نفسه من أفعاله، لأن دفاع الآخر عن نفسه حق مشروع وواجب ديني ووطني أكده الرسول الأكرم (ص) بقوله: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)، والقوي يكون قويًا بانتمائه وعقيدته وثباته ومعرفته وعمله، وهو ما عبر عنه القائد الخالد العظيم حافظ الأسد بالتمسك بالقضية عندما قال: (نحن لن نضل الطريق، لأن لنا قضيةً نمسك بها، لأن لنا وطنًا نحبه ونمسك به، أما أنتم فلا وطن لكم)، وهم الضعفاء الذين لا يدافعون عن انتمائهم، والرجعيون الذين فقدوا أي اتصال بالحق، والخونة الذين رهنوا أنفسهم للباطل وتطاولوا على أهل الحق وآذوهم وحاربوهم كأمثال من يمضي بنشر الدعوات الإرهابية والإقصائية دونما أدنى حق لهم بتكفير الآخرين وتفويض أنفسهم لهدايتهم بالترهيب الإجرامي أو بالترغيب المادي.
وفي الختام:
لابد من الإشارة إلى أننا في سورية كنا ولا زلنا نعيش التعددية الدينية بالطريقة المنطقية العقلانية، تجمعنا المواطنة الحقيقية بعيدًا عن التطرف المنبوذ والتعصب المذموم بكافة أشكاله، حتى لو لوثه بعض المتمردين في السنوات العشر الماضية، أو بعض المستغلين للظروف السياسية لينشروا فكرهم الإرهابي والإقصائي الطارئ هنا وهناك. إلا أن السوريين الأصليين بعيدون كل البعد عن كل هذا الخروج من الدين والانحراف عن النهج اليقين، ثابتون على مبادئهم ومعتقداتهم لا ترهبهم سيوف المجرمين ولا يرغبون في أموال المنافقين، لأن أصالة الانتماء للوطن ثابتة عندهم، وحقيقة الإخلاص للطائفة تثبت صدقهم، وهم الذين يعول عليهم في حماية النسيج السوري في كل وقت وحين.
نكتفي لعدم الإطالة والله أعلم
الباحث الديني العلوي الدكتور أحمد أديب أحمد
لتحميل نسخة بتنسيق PDF انقر هنا