فلسفة الكمال المطلق
بقلم: الباحث الديني هشام أحمد صقر
بِمَا أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ هُوَ الَّذِي أَوْصَانَا أَنْ نَعْمَلَ الْخَيْر ونَتجنَّبَ الشَّرَّ، وَهُوَ الَّذِي أَوْدَعَ فِينَا الضَّمِيرَ الَّذِي نُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ، فَهُو إذن مُفِيضُ الْخَيْرِ وَيَنْبُوعُ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بوجودِهِ بِكُلّ صِفَاتِ القداسةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْكَمَالِ وَالْعَدَالَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلالِ.
وَإِذَا رَجعْنَا إلَى الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ وَجَدْنَا أَن الإِعْجَابَ بِكَمَالِ وَاجِبِ الْوُجُودِ عِنْد تَجَلِّيهِ قَد سَبَى عُقُولَ الأَنْبِيَاء حَتَّى عَجزُوا عَنْ الإِحَاطَةِ بِهِ عجزًا تامًّا، فَخَاطَبَهُ دَاوُدُ النَّبِيُّّ (ع): (ببِرِّكَ -أي استقامَتِك- إِلَى العَلْيَاءِ يَا اللهُ الَّذِي صَنَعْتَ العَظَائِمَ. يَا اللهُ مَنْ مِثْلُكَ؟!)، وأيضًا: (يَا رَبُّ فِي السَّمَاوَاتِ رَحْمَتُكَ. أَمَانَتُكَ إِلَى الغَمَامِ.. مَا أَكْرَمَ رَحْمَتَكَ يَا اَللهُ!!). كما خاطبَهُ موسى النبي (ع): (مَنْ مِثْلُكَ.. يَا رَبُّ؟ مُعْتَزًّا فِي القَدَاسَةِ؟!).
ويُقصَدُ بِالقَوْلِ: اللهُ مَحَبَّةٌ؛ أنَّ صِفَةَ الْمَحَبَّةِ هِيَ صِفَةُ تَجَلِّيهِ. كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الفَلاسِفَةِ: إنَّ سِمَاتِ اللهِ هِيَ ذَاتُهُ، وَإِنَّ ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ أَعْظَمُ مِمَّا أَبْدَاهُ، فَيَقْصدُون أَنَّ تَجَلِّيهِ يُفِيضُ بِالْمَحَبَّةِ وَالخَيْرِ وَالكَمَالِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَنَّ مَحَبَّتَهُ لا حدَّ لَهَا، لِذَلِك اتَّصَفَ وُجُودُهُ بِالكَمَالِ الْمُطْلَقِ.
وَإِنَّ أَعْظَمَ هَذِهِ السِّماتِ الكَمَالِيَّةِ أَنَّهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ المُقَدَّسَةِ مُسْتَغْنٍ عَنْ غَيْرِهِ، فَهُو لا شريكَ لَهُ وَلا يحتاجُ لِغَيْرِه، وَلَوْ احْتَاجَ لِغَيْرِهِ لَكَانَ هَذَا مُنَافٍ لِلكَمَالِ الإِلَهِيِّ وَلَبَطلَتْ الأُلُوهِيَّةُ وَهَذَا مُحَالٌ.
فَوَاجِبُ الوُجُودِ كَمَا أَجْمَعَ الفَلَاسِفَةُ الْمُؤْمِنُون وَاجِبُ الْوُجُوبِ لِذَاتِهِ، لا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ العَدَمِيَّةِ مُطْلَقًا، لأَنَّه مُعِلُّ العِلَلِ وَلا عِلَّةَ لِوُجُودِهِ أصلاً، وَلا يَنْتَقِلُ مِنْ الوُجُودِ إلَى العَدَمِ، لأَنَّ وُجُودَهُ وَاجِبٌ، وَلَوْلا اِسْتِمْرارِيَّةُ وُجُودِه لاَسْتَحَالَ اسْتِمْرَارُ الْوُجُودِ وَالْكَائِنَاتِ لأَنَّهَا لا تقومُ إلاَّ بِهِ، وَلا تَحْيَا إلاَّ بِمَدَدِهِ وَلا تَسْتَمِرُّ إلاَّ بِعَطَائِهِ وَلا تَفْنَى إلاَّ بِأَمْرِهِ.
وإذَا أَدْرَكْـنَـا أَنَّ وُجُودَ وَاجِبِ الوُجُودِ كَامِلٌ فِي وُجُـودِهِ كُـلَّ الكَـمَالِ، وَأَنَّه بِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَـةِ لا يَتَغَيَّرُ ولا يَتَبَدَّلُ وَلا يَكْتَسِبُ لِذَاتِه الْمُقَدَّسَةِ شيئًا عَلَى الإِطْلاقِ، فَهُو صَاحِبُ الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ، وَبالتَّالي فإنَّ جَمِيعَ هَذِهِ السِّماتِ الْكَمَالِيَّةِ الْوُجُودِيَّةِ أُطْلِقَتْ عَلَى تَجَلِّي وَاجِبِ الوُجُودِ لِيَدُلَّ الْمَوْجُودَاتِ العَقْلِيَّةَ وَالحِسِّيَّةَ عَلَيْهِ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ، وليَتَحَقَّقُوا مِنْ وُجُودِهِ فِي سَمَاوَاتِه وَأَرْضِه، فَهُو بِذَاتِه الْمُقَدَّسَةِ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أنْ يَخْطُرَ عَلَى العُقُولِ لِقَوْلِ الإِمَامِ عَلِي زَيْنِ الْعَابِدِينَ علينا سلامُهُ: (إلهي لولا الواجبُ من قبولِ أمرِكَ لنزَّهْتُكَ عن ذكري إيَّاكَ، على أنَّ ذكري لكَ بقدري لا بقدرِكَ، وما عسَى أن يبلغَ مِقداري حتَّى أُجعَلَ مَحَلاًّ لِتَقديسِكَ، وَمِن أعظمِ النِّعَمِ علينا جريانُ ذِكْرِكَ على ألسِنَتِنا).
الباحث الديني هشام أحمد صقر
لتحميل نسخة بتنسيق PDF انقر هنا —-> فلسفة الكمال المطلق
طيب الله عيشك
عيشك طيب