علوم علوية

المفاضلة بين السابقين واللاحقين

المفاضلة بين السابقين واللاحقين

بقلم: الدكتور أحمد أديب أحمد

 

لقد قسم الله المؤمنين إلى درجات، وجعل منهم السابقين واللاحقين، فيقال: إن هناك رجلاً أسبق من رجل في الإيمان. فكيف نفهم هذه المعاني بالدليل والنص؟

 

لقد وقعت الشيعة كما السنة في مطب التاريخ المزور للمفاضلة بين الأولين والآخرين، وكل هذا وفق مبدأ القياس الذي نهانا عنه سيدنا أبو شعيب محمد بن نصير (ع) بقوله: (الحذر كل الحذر من علم القياس لأنه يوجب الانعكاس)، اقتداءً بقول أمير المؤمنين الإمام علي (م): (لا تقيسوا الدين فإن أمر الله لا يقاس).

فالسنة اعتبروا أن السبق هو السبق الزماني في الدنيا عند دعوة النبي (ص) إياهم إلى الإسلام، والمراد عندهم بالأولين أوائل الأمة والآخرين أواخرها في الإجابة للنبي (ص) وقبول الإسلام والانقياد للتكاليف الشرعية طوعًا أو كرهًا، وهكذا جعلت السنة الفضل للآخرين كما للأولين خدمةً لبني أمية الذين أسلموا يوم الفتح صاغرين كأبي سفيان وابنه معاوية وبقية المنافقين من أغصان الشجرة الملعونة.

أما الشيعة فاعتبروا أن السبق هو السبق الزماني عند بلوغ الدعوة، فيعم الأزمنة المتأخرة عن زمن النبي (ص). فالمراد بالأولين عندهم من كان في زمن النبي (ص)، وبالآخرين من كان بعد ذلك، ويكون سبب فضل الأولين صعوبة قبول الإسلام وترك ما كان عليه الناس في ذلك الزمن، وسهولته فيما بعد لاستقرار الأمر وظهور الإسلام وانتشاره في البلاد مع الآخرين، فالأولون سبب لاهتداء الآخرين، وهذا لا يلغي فضل الآخرين في استقرار الإسلام، وهذا الفضل أراده الشيعة المقصرة خدمةً لبني العباس الذين تأخروا عن زمن النبي (ص) واستتب لهم الحكم فيما بعد.

أما المقصرون من أهل التشبيه والتعطيل فقد اعتبروا أن المراد بالسبق السبق في الشرف والرتبة والعلم والحكمة وزيادة العقل والبصيرة في الدين ووفور الإيمان، وهم الذين يسعون سعيهم لتصنيف الناس إلى درجات ومقامات دون أي دليل أو برهان، مع أنه ليس بمقدور إنسان أن يصنف المؤمنين وفقًا لهذا التصنيف لأن علمه عند الله بدليل قوله تعالى: (يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور).

نحن كعلويين نصيريين نرد عليهم قياسهم بالنص الثابت الوارد عن أهل العصمة (ع)، ونلتزم به التزامًا كاملاً، وللإجابة على هذا السؤال نكتفي بما ورد عن الإمام الصادق علينا سلامه حيث قيل له: إن للإيمان درجات يتفاضل المؤمنون فيها عند الله. فقال علينا سلامه: نعم. قيل: صفه لنا حتى نفهمه.

فقال الإمام الصادق علينا سلامه: (إن الله سبق بين المؤمنين كما يسبق بين الخيل يوم الرهان، ثم فضلهم بدرجاتهم في السبق إليه، فجعل كل امرئ منهم على درجة سبقه، لا ينقصه فيها من حقه ولا يتقدم مسبوق سابقًا ولا مفضول فاضلاً، تفاضل لذلك أوائل هذه الأمة وأواخرها، ولو لم يكن للسابق إلى الإيمان فضل على المسبوق إذًا للحق آخر هذه الأمة أولها، نعم ولتقدموهم إذ لم يكن لمن سبق إلى الإيمان الفضل على من أبطأ عنه، ولكن بدرجات الإيمان قدم الله السابقين، وبالإبطاء عن الإيمان أخر الله المقصرين، لأننا نجد من المؤمنين المقصرين من هو أكثر عملاً من السابقين وأكثرهم صلاةً وصومًا وحجا وزكاةً وجهادًا وإنفاقًا، ولو لم يكن سبق يفضل به المؤمنون بعضهم بعضًا عند الله لكان المقصرون بكثرة العمل مقدمين على السابقين، ولكن أبى الله عز وجل أن يدرك آخر درجات الإيمان أولها، ويقدم فيها من أخر الله أو يؤخر فيها من قدم الله).

توضيح:

الله تعالى دعا الخلق إلى نفسه والإقرار بربوبيته في الذرو بدليل قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا)، وقد سئل الإمام الباقر علينا سلامه عن الآية فقال: (أخرج ذرية آدم إلى يوم القيامة فخرجوا كالذر فعرفهم وأراهم نفسه ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه)، وهنا تسابقوا إلى الإقرار فسارعت الملائكة بالإجابة، ثم تلاها أهل الإيمان، فمن سارع بالإجابة اعتبر سابقًا وصنف من الأوائل، ومن تأخر عنهم اعتبر مقصرًا وصنف من الآخرين، وحصل كل منهم على درجته لقوله تعالى: (أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم).

 

قيل: أخبرنا عما ندب الله عز وجل المؤمنين إليه من الاستباق إلى الإيمان. فقال الإمام الصادق علينا سلامه: قال الله عز وجل: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)، وقال: (والسابقون السابقون، أولئك المقربون)، وقال: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) فبدأ بالمهاجرين الأولين على درجة سبقهم، ثم ثنى بالأنصار ثم ثلث بالتابعين لهم بإحسان، فوضع كل قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده، ثم ذكر ما فضل الله عز وجل به أولياءه بعضهم على بعض، فقال عز وجل: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات)، وقال: (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض)، وقال: (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً)، وقال: (هم درجات عند الله)، وقال: (ويؤت كل ذي فضل فضله)، وقال: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجةً عند الله)، وقال: (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا، درجات منه ومغفرةً ورحمةً)، وقال: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا)، وقال: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)، وقال: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح)، وقال: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله)، وقال: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)، فهذا ذكر درجات الإيمان عند الله عز وجل.

توضيح:

كل مؤمن له درجته التي نالها من سبقه، قد ثبتها الله وفضله بها على المسبوق، وهذا أمر جرى عند الدعوة والإجابة، فهو تعالى المرتب للمؤمنين في درجات، وليس للبشر أي حكم في الترتيب كما يقوم اليوم كثير من المقصرين بالحكم والتفضيل بين المؤمنين وإعطائهم درجات وأولويات وأسبقيات حسب ما يرون من مظاهرهم، وهذا لا يجوز لقول سيدنا النبي عيسى المسيح (ع): (لا تحكموا حسب الظاهر ولكن احكموا حكمًا عادلاً).

إن درجات الإيمان لا علاقة لها بما نراه من أفعال وتصرفات قد توهمنا أن فلانًا أسبق من فلان بسبب ما نراه من عمله الظاهر في الحياة الدنيا والتزامه بالفرائض والأحكام، وقد يكون هذا الملتزم مقصرًا في الإجابة ومتأخرًا عمن نقارنه به ونفضله عليه، فهذا مجرد حكم ظاهر على الأمور وهو قياس حذرنا منه كما أسلفنا في بداية الحديث.

وما هذا الاختلاف الظاهر إلا امتحان من الله تعالى للمؤمنين في هذه الدنيا ليتطهروا ويرتقوا ويعودوا إلى ما كانوا عليه، حيث جاء عن الإمام الباقر علينا سلامه أنه قال: إن الله عز وجل لما أخرج ذرية آدم من ظهورهم ليأخذ عليهم الميثاق بالربوبية له وبالنبوة لكل نبي، قال الله عز وجل لآدم: (انظر ماذا ترى)؟ فنظر آدم إلى ذريته وهم ذر قد ملؤوا السماء، فقال آدم: يا رب ما أكثر ذريتي، لأي أمر ما خلقتهم؟ وما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم؟

توضيح: هذا يؤكد العدالة الإلهية بأن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع من حضر في ذلك اليوم لتثبت الحجة.

 

قال عز وجل: (يعبدونني لا يشركون بي شيئًا ويؤمنون برسلي ويتبعونهم). قال آدم: يا رب فما لي أرى بعض الذر أعظم من بعض، وبعضهم له نور كثير وبعضهم له نور قليل وبعضهم ليس له نور؟

توضيح: هذا دليل على ما شرحناه من موضوع السبق في الإجابة، فكلما كانت الإجابة أسرع، كان النور أشد.

 

فقال الله عز وجل: (كذلك خلقتهم لأبلوهم في كل حالاتهم). قال آدم: يا رب فتأذن لي في الكلام فأتكلم؟ قال الله عز وجل: (تكلم فإن روحك من روحي وطبيعتك خلاف كينونتي).

توضيح: قوله تعالى: (روحك من روحي) إشارة إلى المماثلة، وقوله: (طبيعتك خلاف كينونتي) إشارة إلى إفراد الحق عن أن يكون من جنس النبي أو ماهيته.

 

قال آدم: يا رب فلو كنت خلقتهم على قدر واحد وطبيعة واحدة وألوان واحدة وأعمار واحدة وأرزاق سواء لم يبغ بعضهم على بعض ولم يكن بينهم تحاسد ولا تباغض ولا اختلاف في شيء من الأشياء. قال الله عز وجل: (يا آدم، بعلمي خالفت بين خلقهم وبمشيئتي يمضي فيهم أمري، خلقت الجنة لمن أطاعني وعبدني منهم واتبع رسلي ولا أبالي، وخلقت النار لمن كفر بي وعصاني ولم يتبع رسلي ولا أبالي، وخلقتك وخلقت ذريتك من غير فاقة بي إليك وإليهم، وبعلمي النافذ فيهم خالفت بين صورهم وأجسامهم وألوانهم وأعمارهم وأرزاقهم وطاعتهم ومعصيتهم، فجعلت منهم الشقي والسعيد والبصير والأعمى والقصير والطويل والجميل والذميم والعالم والجاهل والغني والفقير والمطيع والعاصي والصحيح والسقيم ومن به الزمانة ومن لا عاهة به، فينظر الصحيح إلى الذي به العاهة فيحمدني على عافيته، وينظر الذي به العاهة إلى الصحيح فيدعوني ويسألني أن أعافيه ويصبر على بلائي فأثيبه جزيل عطائي، وينظر الغني إلى الفقير فيحمدني ويشكرني، وينظر الفقير إلى الغني فيدعوني ويسألني، وينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدني على ما هديته، فلذلك خلقتهم لأبلوهم في السراء والضراء وفيما أعافيهم وفيما أبتليهم وفيما أعطيهم وفيما أمنعهم وأنا الملك القادر، ولي أن أمضي جميع ما قدرت على ما دبرت، ولي أن أغير من ذلك ما شئت إلى ما شئت وأقدم من ذلك ما أخرت وأؤخر من ذلك ما قدمت، وأنا الفعال لما أريد).

 

نكتفي لعدم الإطالة والله أعلم

الباحث الديني العلوي الدكتور أحمد أديب أحمد

لتحميل نسخة بتنسيق PDF انقر هنا

الـمفاضلة بين السابقين واللاحقين

‫6 تعليقات

  1. سبحانه وتعالى من له الأمر والتدبير يفعل مايشاء
    لا إله الاهو ولا يعلم ماهو الا هو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى