علوم علوية

الهلوسات والتوهم الديني

الأمراض النفسية الخبيثة وغير الخبيثة

الهلوسات والتوهم الديني

بقلم: الدكتور أحمد أديب أحمد

 

تبدو على بعض الأشخاص حالات غريبة من السلوكيات أو الأفكار التي تجعلهم يظنون أنفسهم شخصيات استثنائيةً، أو يتهيأ لهم أنهم يتلقون تعليمات معينةً من قوى عظمى سخرتهم لتنفيذ مهام معينة على الأرض ليس لها منطق علمي ولا روحاني. وقد يستطيع بعض هؤلاء الأشخاص أن يروي حديثا جرى مع هذه القوى، أو يصف أشكالاً ومواقف حدثت بينه وبينهم. والأكثر غرابةً أولئك الذي يعتبرون أنفسهم آلهةً أو أنبياءً أو مهديين على الأرض في أيامنا هذه!

بعض البسطاء من الناس قد يعتقدون بعظمة هؤلاء حقا فيلحقون بهم، وآخرون يعتبرونهم مجانين، وآخرون يعتبرونهم كذابين، وذلك حسب حالة الشخص، وأفعاله التي تصدر عنه، وقدرته على الإقناع.

إن علم الطب المادي قد نوه إلى هذه الحالات، وأدرجها ضمن تصانيف خاصة في طب الأمراض النفسية. وفرق بين الأمراض النفسية الشديدة وبين الاضطرابات النفسية خفيفة الشدة التي يحتمل أن يعاني منها كثير من الأشخاص دون أن يكون لها أذى حقيقي عليهم، تمامًا كما الفرق بين الأمراض العضوية الشديدة كالسرطان مثلاً، والخفيفة كالزكام مثلاً. وهنا تكمن الضرورة في تمييز الحالات الخبيثة عن سواها في أمراض النفس، كما هو الأمر تمامًا في تمييز أمراض الجسم المذمومة عن سواها.

فعلم الطب المادي كمحطة أولى للعلوم لم يأت عبثا على يد أبي الطب أبقراط العظيم وجالينوس الحكيم. ولا ينبغي أن تخالف الحقائق الطبية التي أتوا بها العلوم العقلية العالية.

 

أولاً: الحالات الخبيثة:

لقد فندت علوم الطب النفسي هذه الحالات بوضوح، وصنفتها تصنيفًا موضوعيا منطقيا، وفرقت فيما بينها حسب المتغير الأساسي في شخصية المصاب بها. فالطب النفسي يميز بين هذه الحالات شدةً وتأثيرًا حسب حالة الإدراك والوعي لدى الشخص المصاب، والتي تمتد ضمن مجال واسع يبدأ من إدراك الشخص لاضطرابه وطلبه للعلاج، وصولاً إلى حالة غياب البصيرة الإدراكية تمامًا، حيث يكون المصاب في حالة يقين تام أنه السوي، ومن حوله جميعًا مرضى وغافلون، وهي حالة خبيثة لا يمكن أن تصيب المؤمن القوي.

فهؤلاء الأشخاص المتوهمون والمهلوسون ما هم إلا مرضى استشرى المرض الخبيث في نفوسهم كما يستشري السرطان في الجسد، فغاب التعقل عنهم، وضعف الإدراك، واختل السلوك، ووقع فيهم قوله تعالى: (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنةً للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد)، دلالةً على أنهم أشخاص خبيثون غير محمودين.

إن الطب النفسي وضع أصحاب الحالات الخبيثة هؤلاء في عدة تصانيف ضمن فئتين عامتين هما: أصحاب الهلوسات الداخلية الحسية، وأصحاب التوهم الفكري.

 

1- أصحاب الهلوسات الداخلية الحسية:

الذين يشعرون بأشياء تبدو حقيقيةً من جهتهم فقط، لكنها وهمية في واقع الأمر، إذ هي غير مرتبطة بمن حولهم، ولا بمؤثرات صريحة خارجية لحدوثها. ويعتبر الأكثر شيوعًا منهم:

  • أصحاب الهلوسات السمعية: الذين يسمعون أصواتًا معينةً تخاطبهم ويخاطبونها، وتحدثهم وتلقنهم الأوامر، ولكن لا يسمعها ولا يخاطبها أحد غيرهم.
  • أصحاب الهلوسات البصرية: الذين يرون صورًا وأشخاصًا معينين وبهيئات مختلفة، يتكلمون معهم أو يعطونهم تعليمات معينة، ولكن لا يراهم أحد غيرهم.

فقد نجد منهم خبيثا يقسم بأنه يشاهد أثناء يقظته النبي أو الإمام أو الملاك، وهو يخاطبه ويلقنه علومًا ومعارف ظنا منه أنه وحي. كما نجد خبيثا يقسم أنه يخاطب الحيوانات والنباتات ويفهم عنها وتفهم عنه، كما أنه يخاطب الهواء والسماء والكواكب والنجوم والغيوم والبحر والنهر….. وقد نجد خبيثا يقسم أنه يشاهد في يقظته أشخاصًا من الملائكة أو من الجن أو من الأولياء القدامى، أو أنه يسمع أصواتهم وهم يخاطبونه من غير رؤية.

وفي كافة الحالات فإن أصحاب الهلوسات هؤلاء، لكثرة معاصيهم مصابون بالقرين الشيطاني الذي قال تعالى فيه: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا فهو له قرين)، وقال أيضًا: (ومن يكن الشيطان له قرينًا فساء قرينًا).

أما من ادعى مشاهدة أو مخاطبة الأئمة والأنبياء والملائكة والسادة الرسل في المنام، واكتفى بذلك، فلا يوجد حكم ثابت عليه. فإما أن يكون كذابًا فتقع عليه الحجة لكذبه في الرؤيا، أو يكون على صواب. فإن كان على صواب فإما أن تكون هذه الرؤيا حجةً معه إن كان مؤمنًا مخلصًا عاملاً بما علم، أو حجةً عليه إن كان كافرًا أو مقصرًا أو مستودعًا تغنى بها لأجل الشهرة الدنيوية دونما علم أو عمل.

 

2- أصحاب التوهم الفكري:

الوهم أو التوهم هو الاعتقاد غير الطبيعي الذي يحمله المريض بشكل غير قابل للمناقشة بالنسبة له، ولا للتعديل حتى بإثبات خطئه بكل الأدلة والبراهين، حيث يكون هذا الاعتقاد الوهمي شاذا مختلفًا غريبًا عن بيئة المريض وثقافته، وكذلك عن أدلة العلوم المادية والروحية المثبتة. حيث يتشبث أصحاب التوهم بالفكر أو المعتقد التوهمي الذي يحملونه، ولا يتقبلون أي نقد له، رغم مخالفته لجميع الحقائق المثبتة علميا أو دينيا.

ولأصحاب التوهم الفكري الكثير من الأشكال والتصنيفات التي تجتمع كلها تحت التعريف السابق للتوهم، نذكر منها:

  • أصحاب التوهم الديني: يعتقد المصاب الخبيث منهم أنه يمتلك قوةً خارقةً، أو أنه مساند من قوى إلهية، أو حتى أنه مظهر بشري بجوهر إلهي أو نبوي؛ كأن يعتقد أحدهم أنه نبي أو إمام، أو أنه المهدي أو وصي المهدي أو ممثل للمهدي.

وتندرج ضمنهم فئات جماعية برزت وادعت لنفسها ادعاءات كاذبةً كالمصباحية وعبدة إبليس وقد تم نبذهم من مجتمعنا، وحالات فردية نراها هنا وهناك، سواء كان المدعون رجال دين أو أشخاصًا عاديين بسطاء. فهناك الكثيرون ممن يعتقدون أنفسهم من ممثلي الإله على الأرض، وهم منتشرون في كل الطوائف والمذاهب، كالمدعي “أحمد الحسن” بأنه اليماني وصي المهدي في العراق، والمدعي “ناصر محمد اليماني” بأنه المهدي في اليمن، والمدعي “عادل هزيمة” بأنه الإمام علي في لبنان، والمدعية “ماغي خزام” بما تدعيه من كرامات وهمية، وغيرهم الكثير وهم أكثر من أن يعدوا أو يحصوا، لكنهم الأكثر تأثيرًا على الساحة اليوم، وهؤلاء وصفهم تعالى بقوله: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين، يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون، وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).

  • أصحاب توهم العظمة: وهو مختلف عن النرجسية، إذ يعتقد المصاب الخبيث منهم أنه شخص عظيم خارق استثنائي عن بقية البشر أو حتى المخلوقين. فمنهم من يعتبر نفسه أعلى من البشر وقد خلق في غير زمانه فيتكبر على الناس، أو أن ما يصدر منه لا يمكن لأحد أن يفهمه لأنه فوق البشرية، وما شابه ذلك.

ولابد من التنويه إلى أنه قد يحصل تداخل بين أصحاب التوهم الديني وأصحاب توهم العظمة، كمن يعتقد نفسه مظهرًا للإله، أو شخصًا عظيمًا خارقًا استثنائيا مدعومًا من قوى إلهية غير مرئية وموجودة في مخيلته فقط، ولكن في الحقيقة لا تظهر منه أية معجزة أو كرامة.

  • أصحاب التوهم المرجعي: يعتقد هؤلاء الخبيثون اعتقادًا تاما أن الأحداث الكونية والعالمية تستهدف وجودهم، وتسعى لأذيتهم هم بالذات دونًا عن غيرهم. ويرون في حركات وكلمات وإيماءات مذيعي التلفاز ومصدري القرارات الرسمية والعالمية، وكل ما يخص هذا الشأن، إشارات تستهدفهم وتقصدهم هم بالذات، يفهمونها هم دون أن يتلقاها محيطهم بشكل صحيح، مما يجعلهم ويجعل محيطهم في خطر من أن يرتكبوا حماقةً أو أذيةً ما بأنفسهم أو بغيرهم لرد هذا الاستهداف.

إن من سبق ذكرهم من أصحاب الهلوسات الداخلية الحسية وأصحاب التوهم الفكري قد غابت عنهم البصيرة والمحاكمة العقلية، وكثيرًا ما ترتبط حالاتهم بأعراض غياب الوعي أو العدوانية الشديدة الغضبية أو محاولات الانتحار وما شابه. وغياب هذه البصيرة والمحاكمة العقلية هي العلامة الأهم لذم هذه الحالات واعتبارها من العاهات النفسية المذمومة التي تصيب أصحاب النفوس الضعيفة والخبيثة على حد سواء، من الذين قال تعالى فيهم: (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسًا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون).

 

ثانيًا- الحالات غير الخبيثة:

يجب معرفة أن النفس تصاب بالأدواء المختلفة كما الجسم. وكما لمرض الجسم درجات مختلفة، فكذلك لمرض النفس. وكما للجسم أمراض مذمومة، كذلك للنفس أمراض مذمومة، بعضها وليس جميعها. لذلك لا ضير ولا عيب في طلب علاج أمراض النفس كطلب علاج أمراض الجسم، ويجب عدم إثقال المريض بإشارات الانتقاص لضعف أصاب نفسه، بل يجب تشجيعه ودعمه على طلب العلاج كما في حال طلب علاج الجسم، طالما أن أمراض النفس قابلة للعلاج.

وإن الطب النفسي المادي قد وصف حالات النفس المختلفة، وفند أمراضها، وأصاب في اعتبار حالة الوعي والإدراك الحد الفاصل بين الحالات الخفيفة والحالات الشديدة التي قد تلحق الضرر بصاحبها أو من هم حوله. ويعد هذا الحد أيضًا الفاصل بين الحالات المذمومة والحالات المهملة من أمراض النفس المختلفة.

ومن الحالات المهملة التي لا تدخل تحت إطار الذم هي (الزورانية)، وهي حالة شائعة لا تدل على خبث صاحبها، إذ يتميز أصحاب (الزورانية) باضطرابات شكوكية، حيث تساورهم شكوك مبالغ فيها بمحيطهم الاجتماعي الضيق (الأهل، الأصدقاء، المعارف، …)، ويشعرون دومًا بوجود خطر محدق بهم من قبل الدائرة الاجتماعية المحيطة بهم، ونتيجةً لذلك تراهم حذرين دومًا ودائمي الحيطة في علاقاتهم الاجتماعية. فهذه الحالة لا تعد بخطورة ولا خبث التوهم المرجعي، إلا إذا تفاقمت، وعندها يصبح مرضًا خبيثا، وعلى أهله أن يسارعوا إلى علاجه وإرشاده قبل أن يستفحل به المرض ويتعرض لأذية نفسه أو غيره.

 

ثالثاً: قاعدة الحكم:

من عرف هذه الأوصاف ميز بين الأئمة والأنبياء والرسل أصحاب المعجزات المرئية المعاينة للجميع، وبين الخبثاء من أصحاب الهلوسات والتوهم الديني، الذين لا معجزة لهم ولا كرامة.

فالقاعدة الأساسية في الحكم على الخبثاء من أصحاب الهلوسات والتوهم الديني هي طلب إظهار المعجزة، إذ لم يذكر أن نبيا أو إمامًا معصومًا ادعى لنفسه معجزات غائبةً عن عيون البشر بحجة عدم استحقاقهم لرؤيتها، أو أنها لا تظهر إلا له كما يزعم المدعون لمقام النبوة أو الإمامة أو المهدوية. بل كانت معجزات الأنبياء والأئمة المعصومين واضحةً ظاهرةً للعيان لتمام الحجة!

وكذلك لم يذكر أن سيدًا وليا عظيمًا قد أظهر الله له كرامةً مخفيةً غائبةً مفتقرةً إلى الدليل العياني الواضح. على عكس هؤلاء الأشخاص الخبثاء من أصحاب الهلوسات والتوهم الديني الذين لا تظهر الخوارق التي يدعونها لأنفسهم إلا لهم، ولا يراها من حولهم، مع توكيدهم وأيمانهم المعظمة على أنها موجودة، ولكن من حولهم لا يرونها لعدم استحقاقهم لرؤيتها!

وعلى هذا يحق لنا أن نطلب ممن يدعي الألوهية أو النبوة أو المهدوية أن يظهر لنا المعجزة، وإلا فهو إما مدع دجال كذاب، أو مريض متوهم، وفي كلتا الحالتين يكون خبيثا.

وهنا لابد من التمييز شكليا بين المريض المتوهم والمدعي الدجال الكذاب؛ فالمريض المتوهم ينكر أنه مريض، ويعتبر نفسه شخصًا طبيعيا، بينما يعتبر الذين حوله أشخاصًا مرضى لأنهم لا يعرفون ما يدعي معرفته، ولا يرون ما يتراءى له، ويزيد مرضه بسبب معاناته من عدم فهم محيطه لقدراته الوهمية. أما المدعي الدجال الكذاب فهو يزعم عن قصد وكذب أن الأنبياء والأئمة والملائكة والسادة يتراءون له مشاهدةً ومخاطبةً أثناء اليقظة، وهو مدرك أنه محتال يكذب على الآخرين، وأمثاله خاطبهم سيدنا النبي عيسى المسيح (ع) بقوله: (من ليس معي فهو علي ومن لا يجمع معي فهو يفرق. لذلك أقول لكم: كل خطية وتجديف يغفر للناس وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس. ومن قال كلمةً على ابن الإنسان يغفر له وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي)، وهؤلاء أكثر خطرًا وخبثًا، لأنهم يكذبون ويدرون أنهم يكذبون، فأهدافهم خبيثة شيطانية بحتة. ومن هنا سمي المسيح الدجال بالدجال، لأنه كاذب خبيث عن قصد ودراية لمناصرة الباطل وعداء الحق.

 

وأخيرًا:

من فهم وأدرك هذه الأمور والحالات وفرق بينها، ميز بين الأشخاص المصابة نفوسهم بالحالات غير المذمومة، وبين أولئك الخبيثين ذوي الحالات النفسية المذمومة الشديدة الموصوفة أعلاه، وبين أصحاب الكرامات المخلصين ذوي النفوس المطمئنة المستقرة المتزنة الذين لا يصدر عنهم لا توهم ولا هلوسات، بل يصدر عنهم الفعل الرصين والكلام العاقل، والكرامة المرئية المعاينة للجميع، لتثبت الحجة وتتضح المحجة، (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) كما وصفهم الله سبحانه في محكم التنزيل.

 

نكتفي لعدم الإطالة والله أعلم

الباحث الديني العلوي الدكتور أحمد أديب أحمد

لتحميل نسخة بتنسيق PDF انقر هنا

الهلوسات والتوهم الديني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى